الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وإنما عبر سبحانه: {أَنَّى} لكونها أعم في اللغة من أين وكيف ومتى. وأما سيبويه ففسرها هنا بكيف، وقد ذهب السلف والخلف من الصحابة والتابعين والأئمة إلى ما ذكرنا من تفسير الآية إلى أن إتيان الزوجة في دبرها حرام.وروي عن سعيد بن المسيب ونافع وابن عمر ومحمد بن كعب القرظي وعبد الملك بن الماجشون أنه يجوز ذلك، حكاه القرطبي في تفسيره، قال: وحكي ذلك عن مالك في كتاب له يسمى كتاب السر وحذاق أصحاب مالك ومشايخهم ينكرون ذلك الكتاب ومالك أجلّ من أن يكون له كتاب سرّ! ووقع هذا القول في العتبية.وذكر ابن العربي أن ابن شعبان أسند جواز ذلك إلى زمرة كبيرة من الصحابة والتابعين وإلى مالك من روايات كثيرة في كتاب جماع النسوان وأحكام القرآن وقال الطحاوي: روى أصبغ بن الفرج عن عبد الرحمن بن القاسم قال: ما أدركت أحدا أقتدي به في ديني يشك في أنه حلال يعني وطء المرأة في دبرها ثم قرأ: {نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} ثم قال: فأي شيء أبين من هذا؟وقد روى الحاكم والدارقطني والخطيب البغدادي عن مالك من طرق ما يقتضي إباحة ذلك. وفي أسانيدها ضعف.وقد روى الطحاوي عن محمد بن عبد اللّه بن عبد الحكم أنه سمع الشافعي يقول: ما صح عن النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في تحليله ولا تحريمه شيء والقياس أنه حلال.وقد روى ذلك أبو بكر الخطيب. قال ابن الصباغ: كان الربيع يحلف باللّه الذي لا إله إلا هو لقد كذب ابن عبد الحكم على الشافعي في ذلك!! فإن الشافعي نص على تحريمه في ستة من كتبه. وقد بسطنا الكلام في هذه المسألة في شرحنا لبلوغ المرام فليرجع إليه. والحق هو التحريم.وقد أخرج الشافعي في الأم وابن أبي شيبة وأحمد والنسائي وابن ماجة وابن المنذر والبيهقي في سننه من طريق خزيمة بن ثابت أن سائلا سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم عن إتيان النساء في أدبارهن؟ فقال: حلال ولا بأس فلما ولّى دعاه فقال: كيف قلت؟ أمن دبرها في قبلها فنعم أم من دبرها في دبرها فلا إن اللّه لا يستحي من الحق: «لا تأتوا النساء في أدبارهن».وعن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «لا ينظر اللّه إلى رجل أتى امرأته في الدبر» أخرجه ابن أبي شيبة والترمذي وحسنه والنسائي وابن حبان.وعن ابن عمر أن النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قال: «الذي يأتي امرأته في دبرها هي اللوطية الصغرى» أخرجه أحمد والبيهقي في سننه.وعن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «ملعون من أتى امرأته في دبرها» أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي.وقد ورد النهي عن ذلك من طرق كثيرة. وقد ثبت نحو ذلك عن جماعة من الصحابة والتابعين مرفوعا وموقوفا. وقد روي القول بحل ذلك عن جماعة كما سلف.قال الشوكاني في فتح القدير: وليس في أقوال هؤلاء حجة البتة: ولا يجوز لأحد أن يعمل على أقوالهم، فإنهم لم يأتوا بدليل يدلّ على الجواز فمن زعم منهم أنه فهم ذلك من الآية فقد أخطأ في فهمه وقد فسرها لنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وأكابر الصحابة بخلاف ما قاله هذا المخطئ في فهمه كائنا من كان. ومن زعم منهم أن سبب نزول هذه الآية أن رجلا أتى امرأته في دبرها فليس هذا ما يدل على أن الآية أحلت ذلك ومن زعم ذلك فقد أخطأ بل الذي تدل عليه الآية أن ذلك حرام فيكون ذلك هو السبب لا يستلزم أن تكون الآية نازلة في تحليله فإن الآيات النازلة على أسباب تأتي تارة بتحليل هذا وتارة بتحريمه.وقد روي عن ابن عباس أنه فسر هذه الآية فقال: معناها إن شئتم فاعزلوا وإن شئتم فلا تعزلوا.روى ذلك عنه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والضياء في المختارة وروي نحو ذلك عن ابن عمر أخرجه ابن أبي شيبة، وعن سعيد بن المسيب أخرجه ابن أبي شيبة وابن جرير. انتهى.
وقد اختلف أهل العلم في تفسير اللغو: فذهب ابن عباس وعائشة وجمهور العلماء إلى أنها قول الرجل: لا واللّه وبلى واللّه في حديثه وكلامه غير معتقد لليمين ولا مريدا لها.قال المروزي: هذا معنى لغو اليمين الذي اتفق عليه عامة العلماء.وقال أبو هريرة وجماعة من السلف: هو أن يحلف الرجل على الشيء لا يظن إلا أنه أتاه فإذا ليس هو ما ظنه. وإلى هذا ذهبت الحنفية وبه قال مالك في الموطأ.وروي عن ابن عباس أنه قال: لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان. وبه قال طاووس ومكحول، وروي عن مالك.وقيل: إن اللغو هو يمين المعصية. قال سعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمن وعبد اللّه بن الزبير وأخوه عروة: كالذي يقسم ليشر بن الخمر أو ليقطعن الرحم.وقيل: لغو اليمين هو دعاء الرجل على نفسه كأن يقول: أعمى اللّه بصره أذهب اللّه ماله هو يهودي، هو مشرك. قاله زيد بن أسلم.وقال مجاهد: لغو اليمين أن يتبايع الرجلان فيقول أحدهما واللّه لأبيعك بكذا ويقول الآخر واللّه لأشتريه بكذا.وقال الضحاك لغو اليمين هي المكفرة: أي إذا كفرت سقطت وصارت لغوا، والراجح القول الأول لمطابقته للمعنى اللغوي ولدلالته على الأدلة.
وقت اللّه سبحانه بهذه المدة دفعا للضرار عن الزوجة، وقد كان أهل الجاهلية يؤلون السنة والسنتين وأكثر من ذلك يقصدون بذلك ضرار النساء، وقد قيل: إن الأربعة الأشهر هي التي لا تطيق المرأة الصبر عن زوجها زيادة عليها.{فَإِنْ فاؤُ} أي رجعوا، ومنه: {حَتَّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] أي ترجع.ومنه قيل للظل بعد الزوال: فيء لأنه رجع عن جانب المشرق إلى المغرب.قال ابن المنذر: وأجمع كل من يحفظ عنه العلم أن الفيء الجماع لمن لا عذر له، فإن كان له عذر مرض أو سجن فهي امرأته، فإذا زال العذر فأبى الوطء فرّق بينهما إن كانت المدة قد انقضت. قاله مالك.وقالت طائفة: إذا شهد على فيئه بقلبه في حال العذر أجزأه. وبه قال الحسن وعكرمة والنخعي والأوزاعي وأحمد بن حنبل.وقد أوجب الجمهور على المولي إذا فاء بجماع امرأته الكفارة، وقال الحسن والنخعي لا كفارة عليه.{فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} للزوج إذا تاب من إضراره امرأته.{رَحِيمٌ} (226) بكل التائبين.{وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} العزم: العقد على الشيء فمعنى عزموا الطلاق عقدوا عليه قلوبهم.والطلاق: حلّ عقد النكاح، وفي ذلك دليل على أنها لا تطلق بمضيّ أربعة أشهر- كما قال مالك- ما لم يقع إنشاء تطليق بعد المدة، وأيضا فإنه قال: {فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (227) والسماع يقتضي مسموعا بعد المضيّ. وقال أبو حنيفة سميع لإيلائه عليم بعزمه الذي دل مضيّ أربعة أشهر.قال الشوكاني في فتح القدير واعلم أن أهل كل مذهب قد فسروا هذه الآية بما يطابق مذهبهم وتكلفوا بما لم يدل عليه اللفظ، ولا دليل آخر ومعناها ظاهر واضح وهو أن اللّه جعل الأجل لمن يولي: أي يحلف من امرأته أربعة أشهر ثم قال مخبرا للعباد بحكم هذا المولي بعد هذه المدة {فَإِنْ فاؤُ} أي رجعوا إلى بقاء الزوجية واستدامة النكاح فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) أي لا يؤاخذهم بتلك اليمين بل يغفر لهم ويرحمهم، وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ العزم منهم عليه والقصد له {فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لذلك منهم عَلِيمٌ} (227) به. فهذا معنى الآية لا شك فيه ولا شبهة.فمن حلف أن لا يطأ امرأته ولم يقيد بمدّة أو قيد بزيادة على أربعة أشهر كان علينا إمهاله أربعة أشهر فإن مضت فهو بالخيار: إما رجع إلى نكاح امرأته وكانت زوجته بعد مضي المدة كما كانت زوجته قبلها أو طلقها وكان له حكم المطلق امرأته ابتداء. وأما إذا وقت بدون أربعة أشهر فإن أراد أن يبرّ في يمينه اعتزل امرأته التي حلف منها حتى تنقضي المدة كما فعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم حين آلى من نسائه شهرا فإنه اعتزلهنّ حتى مضى الشهر، وإن أراد أن يطأ امرأته قبل مضي تلك المدّة التي هي دون أربعة أشهر حنث في يمينه ولزمته الكفارة، وكان ممتثلا لما صح عنه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم من قوله: «من حلف على شيء فرأى غيره خيرا منه فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه».وللسلف في الفيء أقوال مختلفة فينبغي الرجوع إلى الفيء لغة وقد بيناه.وللصحابة والتابعين في هذا أقوال مختلفة متناقضة والمتعين الرجوع إلى ما في الآية الكريمة وهو ما عرفناك فاشدد عليه يديك.وأخرج عبد الرزاق عن عمر قال: إيلاء العبد شهران.وأخرج مالك عن ابن شهاب قال: إيلاء العبد نحو إيلاء الحر.
|